التكثيف.... قصة المعنى الغائب .
بقلم: شاهين دواجي
- الحق أن ما ألجأني إلى الكتابة في هذا الموضوع هوسؤال طرحه علي أخونا أبو صالح- المسؤول عن مجلة قطوف - حين نشرت بحثا عن القصة القصيرة عند الشاعرة فردوس النجار وقلت في معرض حديثي عن التكثيف : "لا أقصد بالتكثيف تلك المسحة البلاغية التي لا تخلو منها النصوص التي تنماز بالفلسفة ..." بهذا المعنى ... فكان رد الأخ أبو صالح ذكيا حين قال – مامعناه – " وهل التكثيف شيء آخر غير التعبير عن المعاني الكبيرة باللفظ القليل "؟ وهو سؤال ذكي ، غير أنني اعتذرت عن الإجابة لأن الأجابة لا يحتملها مجرد تعليق فلا بد من بسط القول في هذا خصوصا وأن المسألة دقيقة جدا . لكنني وعدته بالأجابة لاحقا .
- قلت : نعم معنى التكثيف كمفهوم عام أن يعبر المبدع باللفظ القليل عن المعنى الكبير ، هذا على العموم لكن الواقع الأبداعي لا يكتفي بهذا التعريف بل ويعتبره " عتبة التكثيف " لا التكثيف ذاته أذ يمكن أن ينسحب هذا المفهوم ويتوفر في نصوص لا تمت بصلة الى النص الإبداعي الحقيقي ولعلي هنا أضرب مثالا موضحا :
* قالت بنات العم يا سلمى وإن*** كان فقيرا معدما قالت وإن
- فلفظة " إن " الأخيرة هي عنصر مكثف لأنها تعبر عن جملتي الشرط وجواب الشرط المحذوفتين فتقدير الكلام : "أتزوجه وإن كان فقيرا معدما ".
لكن هل يمكننا أن نعتبرها " تكثيفا بالمعنى الحداثي للكلمة ؟ الجواب لا ؟-
- من وجهة نظري التكثيف لا يكون تكثيفا إلا إذا عبر هذا اللفظ القليل عن المعنى الكبير وينضاف اليه بعد هذا ما أسميه بـ:" توالد الرؤى " أي أن يحصل ذلك "التراكم" و"التوالد "الجميل في المعاني فاللفظ القليل لا يحكي معنى كبيرإنما يحكي معان كثيرة وهذه المعاني تحكي أخرى .... وهكذا نحن إذن إزاء عملية " تشظ " حقيقية بالمفهوم" التفكيكي " ومن هنا نستطيع أن نستوعب رؤية الدكتور جابرعصفور حين قال متحدثا عن الظاهرة – ظاهرة التكثيف - :" لا يبرع فيه سوي الأكفاء من الكتاب القادرين علي اقتناص اللحظات العابرة قبل انزلاقها علي أسطح الذاكرة, وتثبيتها للتأمل الذي يكشف عن كثافتها الشاعرية بقدر ما يكشف عن دلالاتها المشعة في أكثر من اتجاه....." ثم أضاف :"
"إن تقليل سرد حدث، شخوص، زمان، مكان، أصعب بكثير من الإسهاب في كتابته....."،
..... نعم لأن الأسهاب سهل يتوسل له باللفظ الكثير أما التكثيف فمزيج من الملكات النفسية واللغوية والفرية يندر أن تجتمع إلا عند من كان الحرف زمرة دمه .
- لا أريد هنا أن أسهب فلغة المصطلح الصرفة تبقى مبهمة – بكسر الهاء – مالم تستند إلى مثال تطبيقي وهو ماسلأقوم به بعد لحظة .
- يقول محمد عبد المعطي حجازي في رائعته :" يا هواي عليك يا محمد " التي يرثي فيها أخاه محمد الذي استشهد في النكسة :
* ومحمد أجمل ما أعطى الحب العاجز بين اللذة والحرمان ...
- الشاعر هنا يقصد أن أخاه محمدا ولد لأبوين كبيرين في السن " الحب العاجز" لكن يمكننا أن نفكك هذا التكثيف فنقول بناء على هذه "العتبة " - عتبة التكثيف – أكثر من هذا : فمحمد هذا ينتمي إلى مجتمع ريفي فقير يتسم بالأمية وعدم إنتشار الوعي الثقافي والصحي لدرجة أن والدته ظلت تحبل إلى سن متأخرة كما هو الحال في المجتمعات الريفية ؟
- من أخبرنا بكل هذا ؟ عملية توالد لطيفة لا يملك ناصية خيوطها إلا رجل مثل الشاعر عبد المعطي ....
- مثال آخر أظنه أكثر وضوحا : هو لأختنا الأديبة فاطمة سعد الله :
وبقلبٍ من حديد ..تخلعُ العروسُ ثوب الفرحِ ..
لترتديَ الأمومةَ من جديد
- عتبة التكثيف هنا عروس تتراجع عن قرار الزواج .
- لكن لا يمكننا أن نغفل ذلك الأشعاع العاطفي وذلك التشظي المنبعث من هذه الكلمات الرقراقة حيث : نتحسس مرارة هذه الأنثى التي تبحث عن أنوثتها الضائعة وسنين العمر تنساب من بين أصابعها تاركة وراءها دمعا لا يمحوه ألا الأحساس بالقؤب من الحبيب المشتهى ... نتحسس أيضا نقمة خفية من هذه الأنثى على فلذة كبدها حين وقف عائقا في وجه أنوثتها ....
- نتحسس نقمة هذه الأنثى على الزمن - ولا أريد أن أقول القدر- الذي سار عكس إرادتها حين أفقدها حبيبا و منعها آخر ......
- كل هذه القصص نجدها في هذه الكلمات التي لا تعدو أن تكون سطرا كاملا .... وقد بسطت القول عن هذه القصيدة أقصد قصيدة " الأم العروس" في بحثي الموسوم بـ: المسكوت عنه في "الأم العروس " لفاطمة سعدالله .
- أختم بمثال جميل وراق هولقطة شعرية جميلة فيها كل حسن وبهاء :
قد قال لي العراف :
"ستموت عن عمر ينا هز"
! ثم مات
- فهذا العراف الذي يخبر من يفد إليه كم من العمر سيعيش نفسه مات ... يستطيع الفلاسفة والفقهاء وأهل العقائد أهل النظر عموما أن يكتبوا في هذا المجلدات كل ومشربه لكن أن يجمعوا هذه المجلدات في عشر من الكلم كهذا المقطع فدون ذلك خرط القتاد
- ما أردته من هذه الومضة القصيرة: أن التكثيف جمالية من أهم جماليات النص الحداثي تظل" أمنية" كل باحث عن الشعوذة والسحر...وهي ذلك التوالد والتوارد الجميل للمعاني وهي ضد المباشرة الفجة التي تمل الأسماع والتي للأسف لا يسلم منها من الشعراء إلا من رحم ربك .
شاهين دواجي/ الجزائر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق